وتغير المستعمر للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر، ليس خطابا في المساواة بين البشر، إنما هو تأكيد عنيف لأصالة ثفرض مطلقة. إن العالم الاستعماري عالم ثنائي. والمستعمر لا
يكتفي بان يحد مجال المستعمر، باستعمال القوة المادية، أي بواسطة شرطته ودركه، وإنما يجعل من
المستعمر روح الشر وخلاصته، كأنه يدل بذلك على الاستغلال الاستعماري كلي شامل. أنهم لا يكتفون
بان يصفوا المجتمع المستعمر بأنه خال من القيم. وإنما هو يعلن أن السكان الأصليين لا سبيل لنفاذ
الأخلاق إلى أنفسهم، وان القيم لا وجود لها عندهم، بل انهم إنكار للقيم، أوقل انهم أعداء للقيم. فالمستعمر
بهذا المعنى هو الشر المطلق. انه عنصر متلف يحطم كل ما يقاربه، عنصر مخرب يشوه كل ما له صلة
بالجمال أو الأخلاق، انه مستودع قوى شيطانية انه أداة لقوى عمياء، أداة لا وعي لها ولا سبيل إلى
إصلاحها.

ومتى أخذ المستعمر يرسخ أقدامه على قواعدها، ويفلق المستعمر، أوفدوا إليه رجالا أخيارا
يحدثونه في “مؤتمرات الثقافة” عن خصائص القيم الغربية وعن غناها. ولكن كلما دار الحديث على
القيم الغربية حدث لدى المستعمر نوع من التصلب والتشنج العضلي. انهم في فترة من التحرر من
الاستعمار يناشدون عقل المستعمرين، ويعرضون عليهم قيما أكيدة، ويشرحون لهم في كثير من الإفاضة
أن التحرر من الاستعمار يجب أن لا يعني التقهقر إلى وراء وأن عليهم أن يعتمدوا على قيم مجربة
وطيدة راسخة. غير أن ما يحدث هو أن المستعمر حين يسمع خطابا عن الثقافة الغربية، يخرج خنجره
أو يتلمسه في مكانه ليتأكد من وجوده. ذلك أن العنف الذي كفل تفوق قيم البيض، وأن العدوان الذي لابس
المعركة الظافرة التي خاضتها هذه القيم من أنماط الحية والفكر الخاصة بالمستعمرين، يجعلان المستعمر
يسخر حين يتحدث أحد أمامه عن هذه القيم. إن المستعمر لا يتوقف أثناء فترة الاستعمار عن عمله في
إنهاك المستعمر وتحطيمه، إلا إذا اعترف له هذا بتفوق قيم البيض اعترافا صريحا واضحا. وفي فتر
التخلص من الاستعمار تسخر الجماهير المستعمرة من هذه القيم ذاتها، بل تهينها وتبصقها بصقا.

في المناطق المستعمرة التي شب فيها نضال حقيقي من اجل التحرر من الاستعمار، في المناطق
التي سال فيها دم شعب، في المناطق التي أتاح فيها طول المرحلة المسلحة للمثقفين أن يعودوا إلى
القواعد الشعبية نشاهد استئصالا حقيقيا للأفكار التي استمدها هؤلاء المثقفون من الأوساط البرجوازية
الاستعمارية قد استطاعت في حوارها النرجسي مع نفسها، وبواسطة رجالها الجامعيين، أن تغرس في
أعماق المستعمر أن الماهيات تبقى خالدة رغم جميع الأخطاء التي تنسب إلى البشر، وهم يعنون
الماهيات الغربية طبعا. وكان المستعمر يسلم بهذه الأفكار، فكأن حارسا يقظا مكلفا بالدفاع عن ‎١‏
‏الإغريقية اللاتينية أصبح يقف في ثنية من ثنايا عقله. أما أثناء الكفاح من أجل التحرر، في اللحظة التي
يسترد فيها المستعمر اتصاله بشعبه، فان هذا الحارس المصطنع يتهشم. فإذا جميع القيم التي تسمى قيم
البحر الأبيض المتوسط التي تنادي بانتصار الشخصية الإنسانية، وتدعو إلى الوضوح والجمال. تصبح
دمى لا حياة فيها ولا لون، وإذا جميع تلك الخطب تبدو تركيبات ألفاظ ميتة.

ولكن يحدث أن تتم تصفية الاستعمار في مناطق لم يهزها الكفاح التحرري هزا كافيا. فإذا نحن
نصادف هؤلاء المثقفين أنفسهم الذين يتصفون بالبراعة والمكر والحذق في تحقيق أغراضهم الشخصية،
وإذا نحن نجد فيهم عين أنماط السلوك وأشكال التفكير التي التقطوها من معاشرتهم للبرجوازية
الاستعمارية، لقد كانوا للاستعمار أبناءه المدللين، وهم الآن للسلطة أبناؤها المدلين أيضا، ينهبون الموارد
الوطنية نهبا، ويندفعون إلى الإثراء بالصفقات والسرقات المشروعة اندفاعا لا يعرف الرحمة، عن
طريق الاستيراد والتصدير، والشركات المغفلة، ومضاربات البورصة، والرشوة… على أكتاف البؤس
الذي أصبح الآن وطنيا. انهم يطالبون في إلحاح أن تكون الأعمال التجارية في أيدي أبناء الأمة وحدهم.
ومعنى ذلك عندهم أن تحصر سرقة الأمة في أبناء الأمة. ولا شك أن نجاح أساليبهم الماكرة سرعان ما يثير غضب الشعب وعنفه، أثناء فترة القحط الوطني هذه، أثناء ما يسمى فترة التقشف. وذلك أن هذا
الشعب البائس الذي نال استقلاله في الظروف الإفريقية والدولية الراهنة، يسير نحو الوعي الاجتماعي
بخطى حثيثة. ولن تلبث النفوس الصغيرة أن تدرك هذه الحقيقة في وقت قريب.

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم