ما هي القوى التي تقترح على المستعمر في فترة الاستعمار أن يصب عنقه في طرق جديدة، وأن ينفق طاقاته في أعمال جديدة؟ هذه القوى هي أولا الأحزاب السياسية والنخبة المثقفة والنخبة
التجارية. ولكن نحن نعلم أن ما يميز بعض التشكيلات السياسية هي أنها تنادي بمبادئ، ولكنها تمتنع عن
إطلاق شعارات. وكل النشاط الذي تقوم به الأحزاب السياسية الوطنية إنما هو في فترة الاستعمار نشاط
من النوع الانتخابي، هو سلسلة من المقالات الفلسفية السياسية حول فكرة حق الشعوب في تقرير
مصيرها، وحق البشر في الكرامة والخبز، هو ترديد لا ينقطع للمبدأ القائل ” أن لكل فرد صوتأ، إن
الأحزاب السياسية الوطنية لا تلح أبدا على ضرورة استخدام القوة، لان هدفها ليس قلب النظام القائم
واستئصاله من جذوره. إن هذه الأحزاب أحزاب مسالمة تنادي بالمشروعية، وتناصر في حقيقة الأمر
النظام… الجديد، ولا تزيد على أن توجه البرجوازية الاستعمارية هذا الطلب: “أعطونا مزيدا من
السلطة”. أما النخبة المثقفة فهي في مسألة العنف ليس لها وجه تعرف به، هي عنيفة في الأقوال،
إصلاحية في المواقف والأعمال. أن المنظمات السياسية الوطنية البرجوازية تقول شيئا

أوتعني غيره.
ويجب أن نفسر هذه الخاصة التي تميز الأحزاب السياسية الوطنية، بأمرين في آن واحد هما

نوع قادتها ونوع قاعدتها. أن قاعدة الأحزاب السياسية الوطنية تتألف من أفراد من سكان المدن. وهؤلاء
العمال والفلاحون وأصحاب الحرف والتجار الذين بدأوا يستفيدون من الوضع الاستعماري ولو استفادة
ضئيلة، هؤلاء لهم مصالح خاصة. وما تطالب به هذه القاعدة الشعبية في الأحزاب السياسية إنما هو
تحسين أحوالها وزيادة أجورها. والحوار بين الأحزاب السياسية والاستعمار لم ينقطع يوما. فهي تبحث
في تحسين الأحوال والتمثيل الانتخابي، وفي حرية الصحافة وفي حرية الاجتماع، إنها تبحث في
الإصلاحات. ولذلك يجب أن لا يدهشها أن نرى عددا كبيرا من السكان الأصليين ينتمون إلى فروع
المنظمات السياسية الموجودة في البلد المستعمر، أن هؤلاء ينادون بشعار مجرد: “السلطة لطبقة
البرولتاريا” ناسين أن شعارات وطنية هي التي يجب أن تكون أساس المعركة في وطنهم. إن المثقف
المستعمر ينفق طاقاته الهجومية في صبوة مكشوفة إلى التشبه بالعالم الاستعماري. لقد وضع طاقاته
الهجومية في خدمة مصالحه الخاصة، وهي مصالح أفراد، وبذلك تنشأ بسهولة، طبقة من العبيد
المحررين فرديا، إن ما يطالب به المثقف هو تكثير عدد هؤلاء المحررين، هو إقامة طبقة من
المحررين. ولا كذلك الجماهير، فإنها لا تهدف إلى زيادة فرص نجاح الأفراد. إن ما تريده ليس الحصول
على الحقوق التي يتمتع بها المستعمر، بل هو أخذ مكان هذا المستعمر. إن الأكثرية الساحقة من
المستعمرين تريد أن تستولي على مزرعة المستعمر. ليس هدفهم أن يكونوا والمستعمر أندادا متنافسين،
وإنما هدفهم أن يحلوا محله.

وحين أزفت ساعة الحساب الحاسم، رأينا البرجوازية الاستعمارية التي ظلت إلى ذلك الحين
مبتعدة، رأيناها تتدخل، منادية بهذه الفكرة الجديدة التي هي في حقيقة الأمر من مبتكرات الدفاع
الاستعماري، ألا وهي فكرة “اللا-عنف”. وفهمت النخبة المثقفة والاقتصادية المستعمرة من مناداة
البرجوازية الاستعمارية “باللا-عنف” على هذه الصورة الخاصة أن لهذه البرجوازية الاستعمارية نفس
المصالح التي لها، وأن من الضروري المستعجل والحالة هذه أن تبادر إلى عقد اتفاق معها يضمن سلامة
الطرفين. أن الاعنف هو محاولة لتسوية المسألة الاستعمارية على مائدة خضراء قبل التورط في أية
حركة لا سبيل إلى تراجعها، قبل ارهاق الدم قبل القيام بأي عمل مؤسف، حتى إذا رأوا الجماهير، قبل
أن يصفوا الكراسي حول المائدة الخضراء تأبى أن تسمع غير صوت ضميرها، فتبادر إلى استعمال
الحرائق والقيام بمهاجمتها، هرعوا أي أفراد “النخبة” وقادة الأحزاب البرجوازية الوطنية – إلى
الاستعماريين يقولون لهم :”الأمر خطير جدا. وليس يدري المرء كيف أن ينتهي هذا كله. فلا بد من
إيجاد حل، لا بد من إيجاد تسوية”.

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم