إن الحياد يولد لدى المواطن في العالم الثالث اتجاها نفسيا يعبر عن نفسه في الحياة الجارية
بعناد وكبرياء يشبهان التحدي شبها كبيرا. إن هذا الرفض القوي للتسوية، وهذا الإصرار الصلب على
عدم الارتباط يشبهان سلوك أولئك المراهقين المزهوين المحرومين، المستعدين دائما لان يضحوا
بأنفسهم في سبيل كلمة. وهذا كله يحير المراقبين الغربيين ويرتج عليهم. ذلك أن تناقصا فاضحا بين ما
يدعيه هؤلاء الناس وما يوجد وراءهم. إن هذا البلد الذي بلا ترامواي، ولا جيوش، ولا مال، لا يملك ما يبرر هذه الفخفخة التي يظهر بها، فليس سلوكه هذا إلا ادعاءا فارغا وتظاهرا كاذبا. إن هذا العالم الثالث
يشعر المرء بأنه يبتهج بالمأساة، وانه في حاجة إلى نصيبه الأسبوعي من الذوبات. إن زعماء هذه البلاد
الخاوية الذين يتكلمون بصوت عال يثير الحنق في النفس، إن المرء ليود ان يسكتهم، وانهم يغازلون
وتقدم لهم الأزهار، ويدعون، بل قل بصراحة انهم يتنازع عليهم. إن هذا كله لهومن الحياد. انهم وهم
أميون في أكثرهم الساحقة ،98 بالمئة، قد كتبت من أجلهم مجلدات ضخمة، وهم يسافرون كثيرا. إن قادة
البلاد المتخلفة، وطلاب البلاد المتخلفة، هم من احسن زبائن شركات الطيران، إن المسئولين الإفريقيين
يستطيعون في شهر واحد ان يحضروا مؤتمرا عن التخطيط الاشتراكي في موسكو، وعن محاسن
الاقتصاد الحر في لندن أوفي جامعة كولومبيا. والنقابيون الإفريقيون من جهتهم، يتقدمون بسرعة
متزايدة. وما أن يعهد إليهم بوظائف في أجهزة التوجيه حتى يقرروا أن يكونوا اتحادات مستقلة. انهم لا
يملكون خمسين عاما من العمل النقابي في إطار بلد مصنع، ولكنهم يعرفون منذ الآن ان العمل النقابي
الذي لا شأن له بالسياسة سخف لا معنى له. انهم لم يجابهوا الآلة البرجوازية، ولا نموا وعيهم في
صراع الطبقات. ولكن ربما كان هذا غير ضروري، ربما.

إن ظهور المستعمر كان معناه لدى المستعمر موت المجتمع الأصلي وفناء الثقافة القديمة، وتجمد
الحياة في الأفراد، في آن معا. فالمستعمر يرى الآن أن الحياة لا يمكن أن تعود إلى الانبثاق إلا من جثة
المستعمر حين يصبح المسة جثة متفسخة. ذلكم هو التكامل الكامل بين تفكير المستعمر وتفكير
المستعمر. غير أن هذا العنف، لأنه العمل الوحيد الذي يقوم به الشعب المستعمر، يكتسي طابعا إيجابيا
إنشائيا. فان هذا الكفاح العنيف يجمع الأفراد، إذ أن كل واحد منهم يصبح حلقة عنيفة في السلسة الكبرى،
في الجسم الكبير العنيف الذي انبجس ردا على عنف الاستعمار، فإذا الفئات المتخلفة يعرف بعضها
بعضا، ويلتقي بعضها ببعض، وإذا الأمة المقبلة تكون منذ الآن كتلة غير منقسمة. إن الكفاح المسلح يعبأ
الشعب، أي يقذفه في اتجاه وحيد ليس له ثان.

إن تعبئة الجماهير، حين تتحقق بمناسبة حرب التحرير، تبث في ضمير كل فرد القضية
المشتركة، والمصير الوطني والتاريخ القومي. لذلك نرى المرحلة الثانية، أي مرحلة بناء الامة، يسهلها
وجود هذا الاندماج الذي عجن بالدم والحقد. وهنا نفهم أصالة الألفاظ المستعملة في البلاد المتخلفة. لقد
كان الشعب يدعى في عهد الاستعمار إلى الكفاح ضد المستعمر الغاشم. حتى إذا تحقق التحرر الوطني،
أصبح يدعى إلى الكفاح ضد الفقر، ضد الأمية، ضد التخلف الاقتصادي. فالكفاح يظل مستمرا، ويتحقق
الشعب من أن الحياة معركة دائمة لا تنتهي.

قلنا أن العنف الذي تعمد إليه المستعمر يوحد الشعب. والواقع أن الاستعمار هو بحكم تركيبه يفرق
صفوف الشعب ويغذي النزعة الإقليمية. إن الاستعمار لا يكتفي بأن يعلم أن هناك قبائل، وإنما هو يعزز
وجود هذه القبائل، ويفصل بعضها عن بعض، ويميز بعضها عن بعض. إن النظام الاستعماري يغذي
الز عامات المحلية وينشط الانقسامات الدينية. ولكن العنف يوحد بين الأفراد على الصعيد القومي. وهو
لذلك يحمل في أرحامه بذور القضاء على الإقليمية والقبلية. ومن أجل هذا نرى الأحزاب الوطنية تقسو
قسوة خاصة على الزعماء التقليدين، إن تصفية هؤلاء الزعماء تمهيد لتوحيد الشعب.

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15

أضف تعليق

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم